النهاية هي رغبة كامنة في وعينا البشري الحالي...
النهاية هي رغبة كامنة في وعينا البشري الحالي…


إن شاهدتم أي فيلم سينما صدر خلال السنوات الأخيرة فهنالك احتمال كبير أن أحداثه كانت تدور حول نهاية العالم. الأمر نفسه نجده في مواضيع الروايات الحديثة وألعاب الفيديو والثقافة الشعبية بشكل عام: فكرة نهاية العالم تسيطر على المخيلة الثقافية للعصر الحالي بشكل مثير للاهتمام، وهذه الظاهرة تخبرنا الكثير عمّا يدور في لاوعينا البشري الجماعي هذه الأيام.
سواء أتت نهاية العالم عبر وباء الزومبي المتخيّل أو عبر كارثة مجهولة تترك المجموعات الناجية من البشر في صراع مرّ من أجل البقاء، من الواضح أن شعبية سيناريوهات نهاية العالم آخذة في التصاعد إلى درجات غير مسبوقة في ثقافتنا مع عشرات الأفلام والروايات والألعاب التي تصدر سنوياً وتتخيّل كلّ منها مستقبلاً أكثر قتامة مما سبقها. فما هو السرّ الذي تكشفه هذه الظاهرة؟
ليس الأمر بسرّ في الحقيقة واعتقد أن الجواب واضح لكلّ من يفكّر قليلاً في السؤال: هنالك رغبة عارمة بنهاية هذا العالم تختبئ في أكثر الأماكن ظلمة في لاوعينا البشري، وهذه الرغبة بدأت بالخروج إلى النور شيئاً فشيئاً.
هذا لا يعني أنه هنالك شيطان شرّير ما يوسوس في رؤوس الناس ويدفعهم لاعتناق هذه الأفكار السوداء، بل هو بكل بساطة نتيجة منطقية لأزمة عميقة في عالمنا الحالي. العالم الحالي معطّل ومكسور، وها هو يأكل أبناءه ويرمي بقاياهم في محرقة رهيبة تمتد من شمال الكوكب إلى جنوبه.
من ينجو من المحرقة يبلعه البحر في قارب موت في البحار العالية، ومن ينجو من البحر يعيش مسحوقاً تحت أبراج الشركات أو متسولاً على أبواب الزعماء والأغنياء. هؤلاء الكثرة الذين يقوم العالم اليوم على أكتافهم، يحصلون على مكافآت أقل وأقلّ مقابل أعباء تكبر يوماً بعد يوم، لقد حمّلهم العالم كل ثقله فيما نفاهم في الوقت نفسه إلى هامش الحياة وحكم عليهم بمعيشة شاقة لا أمل لهم بالخروج منها. الأقلية الحاكمة وحاشيتها التي تعيش معزولة في أحيائها الراقية خلف البوابات الحديدية وبذلات الأمن الخاص، تصرّ كل يوم على الشاشات أن الأمور على ما يرام وأن موت المزيد من الفقراء في مواجهة فقراء آخرين هو الكفيل بحلّ أي مشكلة يواجهها هذا “المجتمع”. رغم ذلك، الغالبية باتت تعلم في قلبها أن هذا العالم تعطّل.
صحيح أن هذه الغالبية المسحوقة لا تنتبه كثيراً بشكل واعٍ للحالة المؤسفة التي آل إليها العالم، حيث أنها مثقلة بمتطلبات الحياة (أي الظروف المعيشية غير العادلة) وذهنها مشتت بين فايسبوك وتويتر وعشرات برامج الدعاء والغناء والنفاق وآخر فضيحة جنسية في البلد، لكن يبدو أن كلّ ذلك لم يحل بينها وبين ادراكها أن صلاحية هذا العالم قد انتهت. هذا العالم بات ثقيل لدرجة أن الثقافة الشعبية الحالية، هي من دون شكّ ثقافة الرغبة برؤية العالم يتحطّم.
 أن تخرج هذه الرغبة إلى العلن على شكل أفلام خيالية وما شابه هو أمر طبيعي، حيث أن هذا النوع من الرغبات سوداوي لدرجة أن طرحه بشكّل جدّي هو من المحرّمات الثقافية. باستثناء بعض التيارات الأنركية التي تطالب بالخروج من العالم الحديث وبعض الأبحاث اليتيمة التي تحذّر من الحائط المسدود الذي بلغته الحضارة الصناعية، الأصوليون والمعتوهون الدينيّون هم وحدهم من يطرحون بشكل جدّي برنامج سياسي وثقافي يعلن صراحة نيّته بإنهاء العالم القديم.
لقد رأينا النتيجة الدموية لذلك الطرح المشؤوم في سوريا وفي أماكن أخرى حيث انتهى العالم القديم فعلاً، وحلّ مكانه عالم أسوأ بكافة الأوجه تقريباً. لعلّ ذلك ما يدفع نفس الناس التي تحبّ مشاهدة أفلام نهاية العالم أن ترفض أي حديث جدّي عن ضرورة انهيار العالم القديم. أي حديث عن نهاية يستجلب معه صور دماء ودمار وآلام يرغب كل شخص عاقل بتجنّبها، لكن ألا يتعارض ذلك مع رواج ثقافة نهاية العالم؟
نحلم باليوم الذي نقف فيه على أطلال العالم القديم...
نحلم باليوم الذي نقف فيه على أطلال العالم القديم…
سأجادل بأن قيام وعينا برفض نهاية العالم فيما تعيش هذه الرغبة بقوّة في لاوعينا هو أمر لا يتعارض مع نفسه، بل يعود جذره لنفس الرغبة، وهنا الأمر الأهم الذي يجب علينا أن نستخلصه من كلّ ذلك: الرغبة بنهاية العالم هي في الواقع رغبة ببداية جديدة. ثقافة نهاية العالم هي في جوهرها ثقافة بداية وثقافة خلق جديد، لا ثقافة تدمير وتحطيم فحسب. العالم الحالي معطّل ومشوّه، ومعظمنا نشعر بأننا عالقون فيه في ظروف غير عادلة ومن الصعب جداً تغييرها من دون تغيير العالم كلّه، فما هو أكثر فطرية من نموّ رغبة دفينة فينا بالحصول على فرصة جديدة في الحياة والبدء من جديد على صفحة بيضاء من دون كلّ هذا الثقل الذي ننوء تحته؟
الثقل هو بالفعل الكلمة التي تصف هذا العالم اليوم؛ هذا العالم الثقيل بسلطاته الحاكمة والثقيل بأيدولوجياته وبذلاته وعمائمه وخوذه العسكرية وتعقيداته ومتطلباته المعيشية وأزماته وهمومه. رغم أن العالم يضجّ بالجمال والخير والروعة – والحياة كلّها هي من دون شكّ رحلة دائمة من اختبار أجمل الأمور التي يستطيع هذا الكون تقديمها – رغم كلّ ذلك، المنظومة السياسية-الاقتصادية-الثقافية القائمة استطاعت تحويل وجودنا إلى جحيم.
من المؤسف أن يكون الأصوليّون الدينيّون هم أوّل من أدرك بطلان صلاحية العالم القديم وضرورة تجاوزه، ومن المؤسف أكثر أن تكون الرؤى التي خرجوا بها من ذلك الاستنتاج هي العودة إلى عالم أشد قدماً وظلماً من الموجود حالياً، لكن سيكون من المؤسف أكثر أن يبقى هؤلاء الأصوليون وحدهم هم من يعملون على إخراج مولود جديد من ركام عالمنا القديم فيما لا يزال التحرّريون واليساريون والعلمانيون عالقون في تفاصيل تافهة تنتمي لزمان منته ولعالم بائد.
نحن نرغب لهذا العالم أن ينتهي لكي يكون لنا ولأولادنا فرصة جديدة. نريد له أن يموت لكي لا يكون مستقبلنا عبارة عن كفاح للقمة العيش وعبودية للشركات وقطع رؤوس وصحارى قاحلة، نريده أن يتحطّم بكلّ سلاسله وأحزانه لكي نعيش بحرية وسعادة من دون أن نحني رؤوسنا لأحد ، لكن علينا أن ندرك أن ثمن هكذا فرصة ليس أقلّ من نهاية كاملة للعالم القديم هذا.
لعلّ رغبتنا بنهاية هذا العالم الثقيل وبدء المغامرة البشريّة من جديد هي أكثر ما يشفع لإنسانيتنا، فهي دليل عظيم على المحيط الذي لا ينضب من الخير والشغف الذي يموج بهدوء خلف وعينا الجماعي. نحن نعلم أن هذا العالم ، أن هذه المنظومة المهيمنة عليه، قد فرضت على العالم قهراً أكبر من قدرته على التحمّل، وقد حان وقت الخلاص منها. الخطوة التالية هي أن نكون شجعاناً كفاية لكي نعترف أن آثام العالم الحالي كثيرة لدرجة أنه لا يمكننا إنقاذه من تدمير نفسه. الوقت فات على اصلاح الأمور. حان وقت بدء العالم من جديد.

إرسال تعليق

 
Top